فارس بلا جواد عضو مشارك
عدد المساهمات : 67 تاريخ التسجيل : 05/02/2013 العمر : 37 برجي هو :
| موضوع: ما يفوز به المؤمنون الأربعاء فبراير 06, 2013 12:49 am | |
|
ما يفوز به المؤمنون:
المواضيع تم تناولها في هذا الفصل مثل حقيقة المادة واللامكان واللازمان هي في الواقع حقائق واضحة. وكما بينا من قبل فإن هذه الأمور بالتأكيد ليست ضربا من الفلسفة أو مجرد وجهة نظر، إنها نتائج علمية لا يمكن إنكارها. وإضافة إلى كونها حقيقة تقنية، فإن الإثباتات تؤكد أيضاً على عدم وجود بدائل أخرى عقلانية أو منطقية حول هذا الموضوع: فالكون عبارة عن وجود وهمي بكل المواد المكونة له وكل الكائنات التي تعيش فيه. إنه عبارة عن مجموعة من الإدراكات الحسية.
ويجد الماديون صعوبة في فهم هذا الموضوع. والسبب الرئيسي لعدم استيعابهم الموضوع هو خوفهم اللاشعوري مما سيواجهونه عندما يدركون ذلك. ويقول لنكولن بارنيت بأن بعض العلماء قد أدركوا هذه الناحية: لقد أدرك العلماء مع الفلاسفة مسألة اختصار كل الحقيقة الموضوعية إلى ظل عالم من الإدراكات وكذلك محدودية إحساسات الإنسان الخطرة(29).
وبينما تسبب، حقيقة أن الكون والمادة هي إدراكات، الإزعاج للماديين فإن العكس صحيح بالنسبة إلى المؤمنين. إن من لديهم عقيدة يصبحون سعداء جداً عندما يدركون السر الكامن وراء المادة، لأن هذه الحقيقة هي مفتاح جميع الأسئلة. وبهذا المفتاح يمكن كشف جيمع الأسرار. ومن السهل على الإنسان فهم مواضيع عديدة كان من الصعب عليه فهمها في السابق.
ص 65
وكما سبق ذكره، فإن مسألة الموت والجنة والنار والآخرة، والأبعاد المتغيرة والأسئلة الأخرى مثل "أين الله؟" "ماذا كان هناك قبل الله؟"، "من خلق الله؟"، "كم هي مدة الحياة في القبر؟"، "أين الجنة والنار؟" و"أين توجد الجنة والنار الآن؟" يمكن الإجابة عليها بسهولة. ويمكن فهمها من خلال النظام الذي خلق الله فيه الكون كله من لا شيء، إلى حد أنه بهذا السر تصبح أسئلة متى وأين لا معنى لها لأنه لم يعد هناك زمان ولا مكان. عندما ندرك معنى اللامحدودية، نفهم من ذلك أن جهنم والجنة والأرض كلها فعلياً مكان واحد. وعندما ندرك السرمدية، نفهم من ذلك أن كل شيء يتم في دقيقة واحدة، لا شيء ينتظر والزمن لا يمضي لأن كل شيء قد حدث وانتهى. وهذا يعني في الحقيقة أن الأبدية قد بدأت.
وبمعرفة هذا السر فإن العالم يصبح كالجنة بالنسبة إلى المؤمن. وتتلاشى جميع الإزعاجات المادية المؤلمة. والقلق والخوف، ويتفهم المؤمن بأن كل الكون له رب واحد، وهو الذي يغير العالم الفيزيائي كله كما يريد. وكل ما علينا فعله الالتفات إليه، والخضوع كلياً لله ]فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ[ [آلعمران:53].
إن إدراك هذا السر هو أكبر مكسب في هذا العالم.
وبالإضافة إلى هذا السر، فهناك حقيقة مهمة جدا نفهمها أيضا من خلال القرآن الكريم: فمثلما ذكرنا من قبل فالله تعالى بالنسبة إلى الإنسان: ]أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ] [سورة ق: 16]، وكما هو معلوم فحبل الوريد موجود داخل جسم الإنسان، ولا يمكن أن توجد مسافة أقرب إلى الإنسان من نفسه.
وهذه الحالة تبين بسهولة أن الإنسان لا يستطيع أن يخرج إلى ما هو خارج عن ذهنه. ومثلما هو واضح، فهذه الآية تفهم أكثر من خلال هذا السر.
هذه هي الحقيقة، وينبغي أن يكون معلوما لدى كل إنسان أن لا أحد من دون الله تعالى يمكن أن يكون له مُؤنسا ونصيرًا. لا أحد غير الله تعالى يمكن أن يكتسب صفة الإطلاق. فالموجود المطلق الذي يُلجا إليه، ويُستعان به، وينتظر منه الجزاء هو الله عز وجل...
وحيثما ولينا وُجوهنا فثمّ وجه الله...
الحياة الأبدية بدأت
ص66
ذاكرة الإنسان المحدودة وذاكرة الله اللانهائية
ص 67
ذكرنا في القسم المتعلق بالأبدية أن كل معلوماتنا هي عبارة عن ذاكرة. وكل التفاصيل المتعلقة بحياة الإنسان، وكل ما يراه ويسمعه ويشعر به عبارة عن أجزاء من معلومات يتذكرها. وهكذا هو أيضاً إحساسنا بالزمن. سنبحث الآن في مفهوم الذاكرة بصورة مفصلة أكثر.
كما جاء في الصفحات السابقة، فنحن نعتمد على حواسنا الخمس لكي نعيش. إننا ندرك ما تسمح به حواسنا فقط ولن ننجح أبداً في تجاوز حدود هذه الحواس. إن الزمان والمكان الذي نعيش فيه ندركه بصورة مشابهة. وإذا لم يستطع دماغنا أن يتبين كائناً ما من خلال حواسنا الخمس، فإننا نقول ببساطة بأن هذا الكائن قد اختفى. وبالتالي فإن الأحداث والصور والإحساسات المخزّنة في ذاكرتنا هي موجودة بالنسبة إلينا، أي أنها حية، بينما الأشياء المنسية لم تعد موجودة. وبطريقة أخرى فإن الكائنات والأحداث غير الموجودة في الذاكرة تصبح أحداثاً ماضية بالنسبة إلينا، إنها ببساطة ميتة وغير موجودة.
إضافة إلى ذلك، فإن الأمر يبقى صحيحاً لبني البشر. ومن ناحية أخرى فإن ذاكرة الله هي فوق كل شيء، فهي خالدة ولا حدود لها. وهناك نقطة أخرى تستحق التنبيه إليها هنا: إن مفهوم "ذاكرة الله" يستخدم فقط بهدف التوضيح. وبالتأكيد لا يمكن إجراء مقارنة أو تشبيه بين ذاكرة الله وذاكرة الإنسان. فالله هو الذي خلق كل شيء من لا شيء، وبالتأكيد هو يعرف كل شيء وبأدق تفاصيله.
ويعِّرف الله بنفسه في كتابه من خلال صفاته. وأحد هذه الصفات هي الحافظ وتعني "من يحفظ كل شيء بتفاصيله". وخلف هذه الصفة تختبئ أسرار غاية في الأهمية.
"اللوح المحفوظ"
إن كل شيء قد حدث وانتهى في اعتبار الله عز وجلّ. ومنذ بدء الزمن أخذ كل شيء مكانه في تلك اللحظة الوحيدة. وبعلم منه سبحانه، فإن جميع المعلومات المرتبطة بهذه اللحظة محفوظة في "كتاب". وهذا "الكتاب الرئيسي" أو كما يسميه القرآن "أم الكتاب" يحفظ كل جزء من المعلومات عن كل شيء:
ص 68
]وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ[ [سورة الزخرف: 4].
]وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ[ [سورة الرعد: 39].
]وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ[ [سورة ق: 4].
]وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ[ [سورة النمل:75].
]وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً[ [سورة الكهف: 49].
ويبين الله في آيات أخرى بأن كل الأحداث التي تمر بالإنسان وكل الأفكار التي يفكر فيها وكل ما يحصل موجود في هذا الكتاب:
]مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ[ [سورة الحديد: 22].
وفي الواقع فإن كل شيء، سواء أكان حياً أم غير حيّ، قد وجد منذ بدء الكون، والأحداث التي جرت كلها من خلق الله. وبالتالي فإن الله عالم بها كلها. وبكلمة أخرى "كلها موجودة في ذاكرة الله". وبهذا المعنى فإن أم الكتاب يعتبر تجلياً لصفة الله، الحافظ.
في هذه النقطة نلاحظ حقيقة مدهشة: بما أن ذاكرة الله غير محدودة، فلا يمكن لأي شيء موجود فيها أن يضيع. ففي كل لحظة يخلق الله، وكل تفصيل دقيق لكل شيء قد خلق "منذ الأبد" و "ومقدر له الأبدية».
ماذا تعني إذن عبارة "مقدر له الأبدية؟"
ص 69
لنضع هذا التفسير بالطريقة التالية: لقد بدأت الأبدية بالنسبة لمخلوق أو حادثة في الوقت الذي خُلق به. فمثلاً عندما خلقت زهرة ما فهي، في الحقيقة، مقدر لها أن لا تختفي. فإذا لم يعد كائن ما جزءاً من إحساس شخص ما وزال من ذاكرته، فهذا لا يعني فعلياً بأنه قد اختفى أو مات. إن وجوده في نظر الله هو الذي يهم بالفعل. وأكثر من ذلك، فإن كل حالات الوجود سواء خلقها، أو كل اللحظات خلال الحياة أو الموت، موجودة في ذاكرة الله تعالى.
ويمنح الله الأبدية لكل المخلوقات. و بكلمات أخرى، فإن الأشياء الموجودة قد حققت الأبدية في الوقت الذي خلقت فيه. ولكي نستوعب جيداً هذه الفكرة الغامضة، لابد لنا من التفكير ملياً في كل الكائنات والحوادث بصورة منفردة. ولكن قبل المباشرة في هذا الموضوع، من المفيد التأكيد على الحقيقة التالية: إن ما قيل حتى الآن، مع ما سيتبعه، هو دون شك أكثر المعلومات أهمية التي يمكن للإنسان أن يحصل عليها خلال حياته. وعلى الأغلب فإن الكثير من الناس يسمعون ويتأملون هذه الحقائق حول الأبدية لأول مرة في حياتهم. وعلى أي حال، لابد أن نتذكر أمراً مهما: يلفت الله انتباهنا في القرآن إلى حقيقة أن "من يتوجهون نحو الله بصدق" هم فقط الساعون لذلك. وبكلمات أخرى فإن أولئك الذين يسعون بصدق إلى هدى الله فإنهم يبذلون ما لديهم لتقدير قوته التي لا تنتهي، كما أنهم ينجحون في استلهام الموعظة من هذه الحقائق.
ص 70
الناس في الحياة الأبدية
الخالق هو الذي يخلق كل شيء من لا شيء، وهو يعلم بما سيحدث لكل شيء. ولبيان صفة الله هذه نرى أنه منذ أن يخلق الله الإنسان في رحم أمه يبدأ الخلود بالنسبة إليه. وبالتأكيد، فإن الإنسان لا يتذكر مراحل تطوره في الرحم. ومع ذلك فإن كل دقيقة من تطوره تكون حاضرة في علم الله تعالى، ولا تخفى عليه خافية. كذلك، لا يمكن أن تحتفظ ذاكرة الإنسان بالمراحل الأولية لحياته ومراحل تطوره. وما لم يعلمه الله فإن الإنسان لا يمكنه رؤية هذه اللحظات، وتبقى بعض اللحظات مجرد ذكريات. إن اللحظات التي نختبرها هي مجرد إحساسات تقدم لروحنا. ومع ذلك فإن كل شيء يبقى كما هو في ذاكرة الله اللامحدودة. إن كل ما يواجهه الناس في الحياة وكل التفاصيل المتعلقة بخبرة الإنسان قد خلقها الله وهي لا تختفي أبداً. وكما جاء في الآية الكريمة فإن كل شيء بكل تفاصيله الدقيقة يبقى في علم الله:
].. ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فَي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[ [سورة المائدة: 97].
ولنأخذ كمثال على ذلك النبي آدم، فإن كل التفاصيل المتعلقة بخلق آدم في الجنة قبل نزوله إلى الأرض وا لطريقة التي اختبر فيها بالجنة، كل ذلك ذكر في الكتاب الكريم. إن بداية خلق آدم من طين، وسجود الملائكة له، وكذلك اللحظة التي أرسل فيها إلى الأرض وكل الأحداث التي مرت به لاتزال واضحة وحية حتى الآن.لم يختف أي من هذه الأحداث وكلها موجودة بعلم الله وبأدق تفاصيلها.
وكمثال آخر، دعونا نفكر في شخص حزين لموت قطته. في الحقيقة إن اللحظة التي ماتت فيها القطة والمدة التي كانت فيها تلك القطة لاتزال صغيرة، بل إن التطور الكلي لهذه القطة من لحظة ولادتها موجود في ذاكرة الله تعالى. إضافة إلى ذلك، فإن اللحظات التي كان فيها صاحب هذه القطة في عمله أو كل اللحظات التي لم يقضها مع القطة هي موجودة بوضوح في علم الله. وبالتالي فإن الموت لا يعني وضع نهاية لوجود الكائن. فالأبدية للجميع، وكل شيء موجود في علم الله سبحانه.
ص 71
والشيء نفسه ينطبق بالنسبة للنبي سليمان فاللحظة التي ربَّت فيها سليمان على ساقي فرسه باقية إلى الأبد. إن اختفاء الخيول خلف ستارة والرسالة التي أرسلها سليمان إلى ملكة سبأ، واللحظة التي قرأت فيها الملكة الرسالة مع جنودها، وكيف تم الترحيب بها في قصر سليمان، واللحظة التي اعتقدت فيها الملكة بأن أرض القصر بحيرة وكلمات الملكة:
]...وَأَسْلَمَتْ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[. [سورة النمل: 44] هي موجودة الآن وستظل موجودة إلى الأبد.
إن هذه الأمثلة تستحق التأمل العميق. لنفترض أن في أيام النبي نوح عليه السلام تقطع قميص أحدهم، وبعد فترة خاطه خياط. هذا القميص والنول الذي نسج عليه منذ البداية، وحالة القميص قبل أن يتقطع، والحالة التي أصبح فيها القميص قد حفظت في ذاكرة الله تعالى. ففي هذه اللحظة تماماً، يحاك القميص ولايزال يخاط ويلبس من قبل صاحبه الذي عاش أيام النبي نوح.
لنفكر أيضاً في الساعة القديمة الموجودة في بيتك. إن كل مراحل صنعها التي جرت قبل 200 عام مع مراحل صنع سلك واحد في الساعة، ولحظة تركيب عقربي الساعة والدقيقة، والزمن الذي بيعت فيه الساعة إلى المخزن ويشتريها الزبون، ثم اللحظة التي تعطلت فيها وأعطيت إلى مشتري الأدوات القديمة، واللحظة التي اشتراها جدك منه، والزمن الذي تم فيه توريث هذه الساعة أولاً لجدك ثم لأبيك ثم لك، والطريقة التي وضعت فيها هذه الساعة في غرفة جلوسك وأنت تراقبها بإعجاب. وباختصار، كل ثانية في تاريخ هذه الساعة لاتزال في علم الله تعالى. وفي النتيجة، فإن هذه الساعة تعمل بصورة جيدة في هذه اللحظة.
لقد توقفت ثانية الآن، لقد وضعتها أنت في غرفة جلوسك واشتراها جدك في هذه اللحظة. إن كل هذه الأحداث حاضرة في ذاكرة الله تعالى. وأكثر من ذلك فإن ما مرت به هذه الساعة في الماضي وكذلك ما ستمر به في المستقبل ـ بالتأكيد هو "المستقبل" بالنسبة إليك ـ فهو بعلم الله ومحفوظ في نظره. إن الطريقة التي ستوضع فيها هذه الساعة في منزل ابنك بعد أربعين عاماً، وتلف هذه الساعة خلال ثلاثمائة عام كل ذلك قد ورد في أم الكتاب.
ص 72
وتشير الآية التالية: ]يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً[. [سورة طه: 110]. إلى هذه الحقيقة (الله خير من يعلم حتماً)، لأن الله يعلم كل مخلوق دقيقة بدقيقة، فهو يعلم أحوالهم السابقة وكذلك اللاحقة، أي بكلمات القرآن: ]مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ[. وفي جميع المراحل. ويذكر الله في آية أخرى بأن كل شيء يتم بعلمه: ] إِنَّ اللهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ[. [آل عمران: 5].
ص 73
كل الأحداث تجري في هذه اللحظة تماماً!
إن تقديم مثال سيقودنا إلى فهم أفضل لحقيقة أن كل حادثة تتم في لحظة واحدة في نظر الله تعالى. لنفترض أن أمامك صورة لمدينة كبيرة، حيث تبدو الشوارع والأبنية إلى جانب بعضها البعض، والناس يظهرون بوضوح في الصورة. ولنتخيل أيضاً أن هناك رجلاً يحاول الوصول إلى الطرف الآخر من المدينة. فمن وجهة نظر هذا الرجل هناك مسافة ما لابد من عبورها من أحد أطراف هذه المدينة إلى الطرف الآخر في زمن محدد. وبالتأكيد فإن وصول الرجل إلى هدفه يحتاج بعض الوقت. ومن غير المحتمل أن يوجد الرجل في الوقت نفسه في مكانين مختلفين. ومع ذلك فالحالة تختلف بالنسبة إلى شخص مثلك ينظر إلى هذه الصورة من الخارج. تستطيع أن ترى من النظرة الأولى تفاصيل المدينة في لحظة واحدة. وأكثر من ذلك فإنك لن تحتاج إلى زمن محدد للقيام بذلك.
إن هذه الحالة التي بيناها في المثال السابق تنطبق أيضاً على أشخاص مثلنا محدودين ببعد معين. بالنسبة إلينا يصبح الوصول إلى الهدف ممكناً فقط مع مرور الزمن وببذل بعض الجهد. من ناحية ثانية، فإن ذلك يحتاج فقط إلى لحظة واحدة بالنسبة لله الذي خلق كل الأبعاد، لكي تأخذ كل الأحداث مجراها. والحقيقة المهمة الثانية هي تزامن هذه الأحداث مع بعضها البعض. وكما ذكرنا من قبل، فإن من غير الممكن في حقّ الله الحديث عن فكرة الزمن، لأن كل شيء يحدث وينتهي في لحظة واحدة.
ص 74
لقد خُلق النبي آدم من طين في هذه اللحظة بالذات، والملائكة يسجدون أمام آدم الآن. وكذلك أرسل الآن إلى الأرض. وأكثر من ذلك فإن "اللحظة" التي نتحدث عنها هي "اللحظة" التي تقرأ فيها أنت هذه السطور.
ومثال آخر سيوضح أكثر هذا التفسير. دعونا نفكر في النبي موسى عليه السلام، فاللحظة التي قررت فيها أمه أن تضع الطفل موسى في صندوق وتلقيه في الماء لاتزال موجودة الآن. فهذه اللحظة لم تختف أبداً وستستمر في الوجود إلى الأبد، واللحظة التي ذهب فيها موسى إلى فرعون وأبلغه رسالة الله لاتزال موجودة. ففي الواقع، في هذه اللحظة تماماً، يدعو موسى فرعون لقبول دين الحق. إنها حقيقة أيضاً تلك اللحظة التي يتلقى فيها موسى الوحي من الله تعالى في الوادي المقدس طوى. ففي هذه اللحظة أيضاً يهرب النبي موسى مع قومه من فرعون، وفي هذه اللحظة ينشق طريق في البحر الأحمر للنبي موسى وقومه ليعبروه. وستبقى في ذاكرة الله إلى الأبد تلك اللحظة عندما انشق البحر.
إن اللحظة التي حملت فيها مريم، واللحظة التي وضعت فيها النبي عيسى عليه السلام تحت شجرة النخيل، واللحظة التي عادت فيها إلى أهلها، واللحظة التي تحدث فيها النبي عيسى عليه السلام إليهم وهو لايزال في المهد، وكذلك اللحظة التي سأل فيها تلاميذه "مَنْ أَنْصَارِي إِلَى الله ؟"، ثم قام بإرادة الله. كل هذا يحدث في هذه اللحظة. وبالفعل فإن الأحداث القديمة ليست هي فقط المألوفة بالنسبة إلينا بل أيضاً الأحداث التي نعرفها لأنها ستحدث في المستقبل، وهي في الواقع تحدث في هذه اللحظة.
إن كل ثانية قضاها النبي عيسى عليه السلام في هذا العالم ونقل رسالة الله إلى تلاميذه وعودته إلى الأرض، وكل خطبة دعا فيها الناس إلى طريق الله، ثم موته وبعثه يوم القيامة وكذلك اللحظات التي سترحب فيها الملائكة به وهو يدخل الجنة، كل ذلك يحدث فعلاً في هذه اللحظة.
ص 75
والشيء نفسه أيضاً صحيح بالنسبة إلى من عاشوا قبل 3000 عام. إن الرجل الذي جلس تحت شجرة وقت الظهيرة عام 3000 ق.م. يتأمل خنفساء وقفت على إصبعه فيمجّد خلق الله تعالى، هو يقوم بهذه الأعمال فعلاً في هذه اللحظة. وأكثر من ذلك، ففي اللحظة التي تعود فيها الخنفساء إلى عشها، وكذلك جميع المراحل التي مرت بها منذ أن كانت بيضة وحتى موتها، كلها محفوظة في ذاكرة الله عز وجلّ. وبالتالي كل هذا حدث في لحظة واحدة، في اللحظة نفسها التي تقرأ فيها هذا المقطع.
إن كل هذه الأمثلة تنبه، مرة أخرى، إلى حقيقة هامة: أن كل اللحظات والأحداث والكائنات الحية التي وُجدت في الماضي لم تنقطع عن الوجود ولن تختفي أبداً. إن الفيلم الذي نشاهده في التلفاز مسجل على شريط والصور التي تؤلف الفيلم موجودة سواء شاهدناها أم لم نشاهدها. والشيء ذاته صحيح بالنسبة إلى كل شيء يتعلق بالحياة المتصلة بالماضي أو المستقبل.
ص 76
ومن الضروري استيعاب هذه النقطة جيداً. إن جميع هذه الأحداث لا تشبه الذاكرة أو الذكريات أو الصورة. كلها حية، وكل شيء قد حفظ كما هو، إنها كتلك اللحظة التي نعيشها الآن. إننا ندركها كحوادث من الماضي فقط لأن الله لا يمنحنا هذه الإدراكات. وعندما يشاء الله، يستطيع أن يعرض لنا هذه الصور، ويجعلنا نصدق بأننا نعيشها في الحقيقة.
الماضي والحاضر والمستقبل: هي في الحقيقة زمن واحد
وكما أوضحنا فإن جميع الحوادث التي جرت على الأرض، هي في نظر الله حدثت في لحظة واحدة. فالأحداث التي مرت بالأنبياء موسى وإبراهيم ونوح وسليمان ومحمد عليهم السلام، وكل الأنبياء الآخرين تمت في الوقت الذي نعيشه فعلاً. أيضاً فإن تجارب أحفادنا، وكذلك جميع الناس، الذين سيعيشون حتى يوم الحساب، ستأخذ مجراها في وقت واحد وفي اللحظة نفسها.
ويأتي على رأس هؤلاء الناس أولئك المؤمنون الموجودون الآن في الجنة، بينما يعاني الكافرون الآلام في جهنم.
إن ما مر به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يبقى أيضاً إلى الأبد في نظر الله. وهذه الأحداث تبدو لأحاسيسنا وكأنها حدثت منذ 1400 عام. ومع ذلك، فالحقيقة أن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، في هذه اللحظة بالذات، يصعد إلى السماء، ويختبئ في الغار مع الصدّيق. ومرة أخرى، وفي هذه اللحظة ينقل رسالة الله إلى الكفار. وفي الواقع، فإن هذه ليست أحداثاً جرت في الماضي. بل على العكس هي، حوادث قدر لها أن تدوم إلى الأبد. والسبب في أننا لا نرى ولا نشاهد ولا نجرب هذه الأحداث، هو ببساطة لأنها ليست حاضرة في ذاكرتنا.
والشيء نفسه ينطبق على جميع الأحداث التي جرت والناس الذين ظهروا على الأرض عبر التاريخ. إن فلاسفة اليونان القديمة والسومريين الذين اخترعوا الكتابة المسمارية، وكليوباترا ملكة مصر، وفناني عصر النهضة، وعلماء القرن التاسع عشر وزعماء الديكتاتورية في القرن العشرين وجميع الناس، وحتى جدك وجد جدك وأنت في الحقيقة تعيشون في اللحظة نفسها.
ص 77
لن يختفي أي من هذه الأحداث، إنها مستمرة في الوجود دون تغيير. الصليبيون، والهجرات الكبيرة والحرب العالمية الأولى والثانية، رغم أنها تبدو حوادث تاريخية، هي بالفعل أحداث تجري في هذه اللحظة وستستمر كذلك إلى الأبد. أيضاً الحضارة المصرية والمكسيكية القديمة واليونانية والأناضولية كلها توجد في اللحظة نفسها.
إن المطر الذي روى حقل رجل كان يكسب رزقه منه، كمزارع عام 1000 ق.م في حوض الرافدين، واللحظة التي تُسقى فيها هذه المزارع بالمطر، كلها موجودة الآن في علم الله سبحانه. والعنكبوت الذي نسج شبكة في أغصان شجرة صفصاف خلال عصر الأكاديين، هو ينسج أيضاً شبكته الآن. والعنكبوت نفسه ينتظر فريسته في زاوية شبكته في هذه اللحظة. وأكثر من ذلك، ففي اللحظة نفسها التي تحاول فيها رؤية هذا العنكبوت في عقلك، يبدأ بوضع البيض، فيحمله على ظهره ويعتني به. أيضاً، وفي اللحظة نفسها، تفقس البيوض وتخرج صغاره.
ص 78
لا يوجد شيء مهمل أو قيد النسيان؛ إن مخلوقات الله تخدم أغراضاً مختلفة.. وبالتالي لا شيء يختفي أو يتلاشى أو يضيع. وإذا كان الناس لا يرون أو لا يعرفون أو لا يمارسون هذه الأحداث المختلفة فإن ذلك لا يعني أنها لا تحدث الآن. وبما أن الله غير محدود بزمن فإن كل شيء قد بدأ وانتهى الآن بمعرفته. وبما أن الفرد محدود بزمن فإن تجاربه تبدو مرتبة كسلسلة من الأحداث. وهذا الترتيب يبدو ظاهرياً أنه يستند إلى مقياس الماضي والحاضر والمستقبل. وكما ذكرنا سابقاً، فإن الأحداث التي لم تجر بَعْدُ فهي لم تمارس بالنسبة لنا بعد. إن الماضي والمستقبل والحاضر كلها شيء واحد بالنسبة لله. وهذا هو السبب في معرفة الله لكلّ شيء. وهذه الحقيقة وردت في الآية الكريمة التالية:
]يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأرضِ يِأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ[ [سورة لقمان:16].
حياتك هي أيضاً لحظة واحدة
لفهم هذه الحقيقة، ليس هناك مبرر للتفكير فقط في الأحداث أو التأمل في ممالك التاريخ. إن حياة الإنسان التي يفترض أنها طويلة، هي ليست إلا لحظة واحدة. فاللحظة الأولى التي ولدت فيها، واللحظة التي حضنتك فيها أمك لأول مرة لاتزال موجودة. وهذا الاختبار الوحيد أو تلك الحادثة ستستمر في الوجود إلى الأبد لأنها موجودة في علم الله. ومع ذلك، وكما ذكرنا من قبل، بما أن كل المعلومات الموجودة لديك عن العالم قد انتقلت إليك بواسطة حواسك الخمس، وبما أنك تعتمد على حواسك ولا يوجد في ذاكرتك معلومات تتعلق بهذه الصورة فإنك لا ترى هذا المنظر. وهذا ينطبق على كل شيء تمارسه في الحياة. فاليوم الذي التحقت فيه بالمدرسة الابتدائية، وأحد أعياد ميلادك التي احتفلت بها، وحادثة جرت لك، واليوم الذي تخرجت فيه من المدرسة الثانوية، ويوم زواجك، وكذلك نقاط تحول مشابهة في حياتك، كل منها في نظر الله مجرد لحظة، لم يختف أي من هذه الأحداث، وستبقى دائماً.
ص 79
وكذلك، فإن المذاق الحلو الذي اكتشفته في قطعة الشوكولاتة عندما كان عمرك خمس سنوات، والقلق الذي شعرت به عندما استيقظت في أول يوم تذهب فيه إلى المدرسة الابتدائية، والسأم الذي شعرت به في أحد الدروس عندما كنت في الثانوية، والمعادلات الصعبة التي كتبها أستاذ الرياضيات على السبورة، والألم الذي شعرت به عندما فقدت صديقاً عزيزاً في حادث سير، والفخر الذي شعرت به عند انتهاء دراستك الأكاديمية، وتوهج السعادة الذي شعرت به عندما نجحت في الحصول على شيء حلمت به لسنوات، وباختصار، جميع اختباراتك ومشاعرك تبقى كما كانت، فهي لم تحفظ بوضوح في ذاكرتك. إنك تدرك ما حفظ في ذاكرتك كذاكرة أو الأحداث الماضية. ورغم وجودها الآن، فإن الدماغ لا يدرك هذه المشاهد، باعتبار أن الإنسان يختبر بهذه الطريقة على الأرض. وبما أن الناس يؤمنون بأنهم ملزمون بانسياب زمني ثابت ولا يتغير يمتد من الماضي إلى الحاضر والمستقبل، فإنهم يفترضون أن حياتهم مقسمة إلى مراحل واضحة وهي الماضي والحاضر والمستقبل. وهذا يضع عائقاً كبيراً أمامهم ليستطيعوا فهم الحوادث الدقيقة كالوجود والحياة الآخرة، ومتى وأين الجنة والنار ومتى يوم الحساب. إنهم لا يستطيعون ربط مفهوم الزمن بعلم الله مع مفهوم الزمن الذي يربط الناس. ومع هذا وبما أننا نعلم أن كل كائن حي وكل حادثة وكل شيء قد خلق للأبد جزءاً جزءاً تماماً مثل الأجزاء التي تشكل شريط الفيلم، ووضعت فيه الحياة الوقت نفسه، فإن ذلك سيسهل علينا فهم هذا الموضوع.
ص 80
ففي نظر الله تعالى كل شيء تم وانتهى. يتوهم بعض الناس معتقدين أن الله قد خلق الكون ومنح الإنسان مدة من الحياة وينتظر اختبارهم (إن الله بالتأكيد فوق كل هذا). وهو سينتظر حتى نهاية الكون. ولكن ذلك شيء مستحيل. فالانتظار يعبر عن ضعف، وهي صفة خاصة بالإنسان، وبالتأكيد فالله غير محدود بهذا الضعف. إن صفة الله القدّوس، التي يقدم الله بها نفسه في القرآن، تعني "أنه بعيد عن كل خطأ، وعجز، وعن أي نوع من النقص". ولذلك فإن الله يعلم ماضي وحاضر كل الناس، وكذلك تجاربهم بكل التفاصيل. ولكن الإنسان في هذه الحياة، وفي ميدان هذا الاختبار، يفترض أن الزمن خط مستقيم له بداية ونهاية. ومع ذلك، وكما جاء في هذا الفصل، لا يمكن الحديث عن مفهومي الماضي والحاضر. فكل شيء، وكل الناس وجميع الكائنات الحية تعيش في وقت واحد معاً. إن كل العصور والدقائق والثواني، وحتى الأيام والساعات واللحظات جميعها، تحدث في الوقت نفسه. ورغم أن الإنسان غير قادر على رؤية ذلك بسبب القدرة المحدودة لحواسه، فإن هذه الحقيقة واضحة. في الفصل الوارد تحت عنوان "النسبية في القرآن" تم تقديم أمثلة عديدة لتوضيح الفرق بين الزمن الذي يحد الإنسان والزمن عند الله تعالى. ويلفت الله نظرنا لهذا الموضوع في الآية التالية:
]وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ[ [سورة الحج: 47].
إن الله الحسيب يعلم بالتفصيل حساب الأشياء التي يفعلها الناس في حياتهم. وإذا تذكر أحدنا أن كل شيء يقوم به هو موجود لا يمكن أن يختفي، فإنه سيفهم صفة الله هذه بصورة أفضل. إن معرفة الله بكل شيء وكل التفاصيل وكل حادثة تمر قد أشارت إليها الآية التالية:
ص 81
]إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ. وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[ [سورة لقمان: 34].
وهذا هو السبب الرئيسي الذي يدعو المؤمنين لتقدير عظمة الله والخضوع له والثقة به. إن عظمته تذكرهم ببساطة كم هم ضعفاء وبحاجة إليه.. إنهم يعرفون ضعفهم بالمقارنة مع قوته.وقد أشار القرآن إلى صفة سمو الأخلاق لدى المؤمنين في الآيتين التاليتين:
]قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ[ [سورة التوبة: 51].
]قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَاءَ اللهُ..[، [سورة يونس: 49].
إن الناس الذين يؤمنون فعلاً ويرددون هذه الكلمات هم الذين يستطيعون إدراك صفات الله. ولهذا يخضعون بقلوبهم بشكل كامل لله تعالى.
الموت لا يعني الفناء
والموت أيضاً من المواضيع التي يفهمها الناس خطأً. فالشخص الذي يموت يعتبر ببساطة فانياً. لأن معلوماتهم غير كافية بخصوص الآخرة، والحياة الأبدية و الجنة والنار، والناس، بصورة عامة إما لأنهم لا يعتقدون إطلاقاً في البعث بعد الموت أو أن لديهم معلومات غامضة عن ذلك. وبالتالي فإن الغالبية يظنون أنهم فقدوا شخصاً إلى الأبد عندما يموت. وهذا بالتأكيد موقف خاطىء. في الوقت الذي يولد فيه الإنسان (عندما يأتي إلى عالم الوجود بقدرة الله) تكون حياته الأبدية قد بدأت. والموت هو مثل كل اللحظات الأخرى التي تشكل حياة الإنسان، وهو لحظة واحدة يمر بها، ولكن، في الحقيقة، هذا الإنسان لايزال حياً.
ص 82
إن كل اللحظات قبل الموت وبعده، وكل شيء يتعلق بحياة الإنسان تبقى دون تغيير. فمثلاً بعد موت أحدهم يقول الناس: "من المؤسف موته وهو لايزال صغيراً". بينما جميع التفاصيل المتعلقة بحياة الإنسان وذكريات طفولته وولادته وأسرته ما تزال موجودة. إنها لا تتلاشى ولا تندثر. وكل التجارب محفوظة. وكشرط أساسي لاختبار هذا العالم فإن هذه الذكريات تمحى ببساطة من الذاكرة، ومع ذلك، فإن ذلك لا يعني أبداً أنها غير موجودة.
الولادة والحياة والموت تتم وتنتهي في نظر الله في الوقت نفسه. والشيء نفسه ينطبق على كل بني البشر. فالبشر كلهم يأتون إلى الوجود ويموتون في اللحظة نفسها. والجميع يبعثون ويذهبون إلى الجنة أو النار. وهكذا فلا أحد يموت ولا أحد يهمل، كل الناس هم على قيد الحياة إلى الأبد. ويقضي الإنسان جزءاً فقط من حياته الأبدية في هذا العالم، وخلال هذه الفترة من المعلوم إلى أين سيذهب إلى الجنة أم جهنم. في هذه اللحظة تماماً بعض الناس الذين يعيشون الآن في هذا العالم هم في الجنة، بينما الآخرون هم في جهنم. ويؤكد القرآن على هذه الحقيقة في عدد من الآيات المتعلقة بالجنة وجهنم، ويشار إلى الحياة الآخرة إما بالزمن الحاضر أو الماضي مما يلفت النظر إلى حقيقة أن كل هذه الأحداث تأخذ مجراها في لحظة واحدة:
]إِنَّ أَصْحَاب الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغْلٍ فَاكِهُونَ. هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأرائِكِ مُتَّكِئُونَ[. [سورة يس: 55ـ 56].
]وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذّا جَاءُوهَا وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ. وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ. وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[. [سورة الزمر: 73ـ 75].
]وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً[. [سورة الكهف: 53].
ويسود في حياة البشر سر غامض آخر. فبينما يحزن الناس لموت شخص ما، فإنهم لا يعتبرون أنهم هم أنفسهم قد ماتوا بل بعثوا. إن ولادة وموت شخص يحدثان بالتزامن معاً. وحتى التفاصيل التافهة حول حياة كل الناس وموتهم وبعثهم وحياتهم الأبدية كلها محفوظة في نظر الله. وبكلمات أخرى، فإن كل شيء يجري في هذه اللحظة. إن الموت والبعث ليسا في الحقيقة أمرين يحدثان في أزمان واضحة.
يولد الناس في الخلود وكذلك يموتون ويبعثون، وفي الحقيقة فهم في هذه اللحظة أحياء. ففي اللحظة التي يخلق الله فيها الإنسان يصبح حياً أبدياً. وبعبارة أخرى يبدأ الإنسان حياته التي لا تنتهي حيث يصبح حياً إلى الأبد. وفي الوقت نفسه، فإنه يشهد أيضاً موته. فهو يشهد موته تماماً كما يرى نفسه حياً خلال حياته، ولكن لمرة واحدة فقط.
والمثال التالي يوضح لنا هذا الموضوع أكثر، إذ يخبرنا الله في القرآن بأن النوم هو شكل من أشكال الموت. وهكذا فإن الإنسان يشهد موته عندما يذهب إلى النوم ويشهد بعثه عندما يستيقظ في الصباح. وهذه الحقيقة واضحة في الآية التالية:
]اللهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ[. [سورة الزمر: 44].
ص 42
إذن، فالإنسان يشهد موته وبعثه بصورة متواصلة طول حياته، وبصورة مشابهة سيرى أيضاً موته الحقيقي. وبالتالي فإن ولادته وموته وبعثه وكذلك مقره الدائم كلها معروفة، والإنسان حي دائماً في نظر الله. كل هذه الأحداث قد جرت وانتهت في نظر الله. ولهذا فإن الموت بالطريقة التي يفهم بها بصورة عامة ليس الانتهاء أو الاندار.
ص 84
وإذا أخذت هذه الحقائق في الحسبان فإن الحزن على شخص متوفٍ والشعور بالأسى لموته يبدو غير معقول. إن الشاب أو الطفل أو الشخص الذي يتمتع بصحة جيدة إذا مات لا هذا يعني التلاشي، فكل واحد موجود في أفضل أوضاعه. إن كلاً منهم حي في نظر الله. وهذا دليل واضح على
| |
|