بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ولرحمة الله وبركاته
دمشق... مدينة المسك والفردوس
كثيرًا
ما سمعنا أن دمشق أقدم مدينة عربية, ولكننا لم نجد في المراجع التاريخية
ما يُثبت هذا القول, والصحيح هو أنها من أقدم مدن الشرق الأوسط.
إن
لمؤرخ دمشق (علي بن عساكر) الذي عاش وتوفي في القرن الثاني عشر الميلادي.
موسوعة قيمة عنوانها (تاريخ مدينة دمشق) ذكر فيها أن اسمها مشتق من كلمة
(دوموسكوس) اللاتينية, ومعناها (المسك): فعُرّب وأضحى دمشق: (داماسكوس),
وأضاف يقول: إن اسم نهرها (بردى) كان في الأصل: (باراديوس) أي (الفردوس)
قبل أن يُعرب ويصبح (بردى), فلولا هذا النهر لما توسّعت وأضحت واحة غنّاء
ضمن الصحراء تحيط بها بساتين (الغوطة) الممتدة على مساحات كبيرة من شرقها
إلى غربها. ينبع (بردى) في سهل الزبداني ويمرّ في واد يحمل اسمه تكتنفه قرى
(الفيجة) والجديدة والأشرفية و(الهامة) و(دمّر) قبل أن تنساب فروعه السبعة
في أحياء دمشق ودورها ويخرج منها ليروي قرى الغوطة وحقولها المشجّرة,
خلافًا للأنهر التي تصبّ عادة في البحار, كما أن طوله لا يتجاوز سبعين
كيلومترًا. أضيف إلى ما سبق أن الدكتور قتيبة الشهابي ذكر في كتابه: (دمشق
تاريخ وصور) الذي نشرته وزارة الثقافة والإرشاد القومي بدمشق عام 1986م, أن
الإغريق أطلقوا على نهر بردى اسم (نهر الذهب), وأن ذكره جاء في التوراة
كذلك.
لقد كانت الغوطة ولاتزال تغري الناس بالتنزّه فيها
للاستمتاع بظلال أشجارها وأزهارها في فصل الربيع خاصة لكثرة أشجار اللوز
والمشمش في بساتينها, فيقضون النهار كلّه مع أولادهم وأصحابهم, حاملين
طعامهم معهم, وكان أصحاب المزارع يسمحون لهم بقطف الجانرك والمشمش من
الأشجار المثمرة القريبة من الطرقات العامة. هذا النعيم الذي استمتع به أهل
دمشق وزائروها, بقي مصانًا يرطّب جوّها إلى أن يُنبت في جزء كبير منها
مصانع في النصف الثاني من القرن العشرين, وقضمت بعضًا من بساتينها, وعندما
زار أمير الشعراء دمشق في أوائل القرن العشرين تغنّى بدمشق وغوطتها بقصيدة
أنقل منها هذين البيتين:
جرى وصفق يلقانا بها بردى كما يلقاك دون الخلد رضوان
آمنت بالله واستثنيت جنّته دمشق رَوْحٌ وجناتٍ ورَيْحانُ
كما استوقفني بيت جميل لشاعر لم أعد أذكر اسمه قال فيه:
ثلاثة تُذهبُ عن المرءِ الشجن الماء والخضرة والوجه الحسن
رقّة طباع أهلها
وما
من شك أن أهل المدن المرويّة بالأنهار والغنية بمحاصيلها الزراعية يمتازون
برقة طباعهم وجودهم وحبّهم للخير لأن (الدماشقة) اشتُهروا بما حققوا من
أعمال البرّ والإحسان, فكان الميسورون في كل حيّ من أحياء المدينة يقدمون
الطعام للفقراء المقيمين فيه ويرعون الأيتام, واليوم إذ نتساءل عن السبب في
تسميتها (مدينة المسك), نجده في تصميم دوره القديمة المتضمنة فسحاتٍ
داخلية تتوسطها بحرات للماء وتكتنفها أجواء مغروسة بالريحان والأزهار وشجر
الياسمين الذي كان يعرش على جدران الطابق الثاني منها, وشجر الليمون
والنارنج الذي يفوح منه أريج الزهر في فصل الربيع. ولما كان الدماشقة يخشون
الحسد, عمدوا إلى إخفائها عن المارّة بجعل بابها الخارجي صغيرًا, وهنا
تجدر الإشارة إلى أن هندسة تلك الدور الشامية امتدّت إلى الأندلس بعدما
فتحها الأمويون في القرن السابع الميلادي. حيث نرى مثيلاتها حتى اليوم في
قرطبة وإشبيلية وغرناطة وغيرها مع الفارق بأننا نجد أبوابها الخارجية
الصغيرة في هذا العصر مفتوحة أمام السياح. أما دمشق, فقد عرفت ازدهارًا
كبيرًا جدًا إبان الحكم الأموي الذي اتخذها عاصمة له, وبنى فيها الخليفة
الوليد بن عبدالملك المسجد الأموي الذي كان أكبر مسجد في العالم الإسلامي
بعد الحرم الشريف بمكة المكرمة, وذكر لنا المؤرخ الدكتور صلاح الدين المنجد
في كتابه: (حمامات دمشق) أن الخليفة الوليد بن عبدالملك خاطب أهل دمشق بعد
الانتهاء من بنائه بقوله لهم: (من حقكم أن تفخروا على الناس بأربعة أشياء
هي ماؤكم وهواؤكم وفاكهتكم وحماماتكم, فأردت أن أجعل خامسها مسجدكم. إن
للمسجد الأموي أربعة أبواب وقبة وثلاث مآذن تفنّن المهندسون بتزيينه وبناء
أروقته, وأحاطوه بفسحة كبيرة تتضمن بحرة ماء للوضوء قبل الصلاة, ومَن يتأمل
بلوحات الفسيفساء في جداره الغربي, يرى رسومًا لدور دمشق القديمة تتدفق
المياه في وسط صحونها الداخلية وتكتنفها الأشجار. أعتقد بأن ما من أحد يزور
المسجد الأموي الذي يوجد فيه قسم خاص بالنساء إلا ويزور بقربه مسجدًا
صغيرًا دُفن فيه القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي, ويزور كذلك مسجد تكية
السلطان سليم (التكية السليمانية) التي كانت تطل على نهر بردى بجمالها
ووساعتها وقبابها منذ تشييدها في العصر العثماني, ولكن بردى اختفى عن
الأنظار بدمشق في هذا العصر بسبب تغطيته تفاديًا لفيضانه, ولكن مَن يسع
لرؤيته فلابدّ له من التنزه في ضاحية المدينة الغربية والجلوس في مقاهي
ومطاعم (الشادروان) و(الهامة), ودمّر المنتشرة فيها. كما أن من أشهر مساجد
دمشق في شمالها مسجد الشيخ الصوفي محيي الدين بن عربي الذي وُلد في مدينة
(مرسية Murcia) بالأندلس في القرن الثالث عشر الميلادي. وانتقل منها إلى
إشبيلية حيث قضى زمنًا طويلاً, ثم استقرّ بعدها في دمشق, وتوفّي فيها,
ووضعت رفاته بمقام ضمن هذا المسجد. ومن أشهر مؤلفات هذا العالم (الفتوحات
المكيّة), و(مفاتيح الغيب), كما أن المؤمنين ببركاته كثيرون حتى في إسبانيا
لأنهم يقارنون بينه وبين القدّيسة المتصوفة (سانتا ماريادي خيسوس). أما
آخر مسجد, أودّ التحدث عنه فهو جامع (السنانية) الذي شيّده الوالي العثماني
سنان باشا عام 1586م. وجعله بأقواسه المتعددة وقبّته من أجمل المساجد في
حيّ (الميدان) القديم.
لقد كانت توجد حمامات عامة في سورية, إبان
الحكم الروماني بدمشق وإنطاكية وتدمر كذلك, ولكن عدد الحمامات التي أنشئت
في العصر الأموي بلغ سبعة وخمسين حمامًا استنادًا إلى كتاب نشره الأستاذ
(منير كيّال) بدمشق عام 1966 بجزأين تحت عنوان: (الحمامات الدمشقية
وتقاليدها), ماعدا الحمامات التي بُنيت خارج أسوارها, وفي القرى المجاورة
لها. كان كلّ حمام مؤلّفا من ثلاثة أقسام: (البراني والوسطاني والجواني),
أي الخارجي والمتوسط والداخلي, يؤمّه الرجال والنساء في أوقات محدّدة لكل
منهم, ويقضون فيه وقتًا طويلاً يتسامرون ويشربون القهوة حسب الطقوس
المتبعة, وقد تفنّن بانوها بتزيين جدرانها بالقيشاني وأرضها بالرخام,
وكانوا يضيئونها بالفوانيس, فالبراني يتألف من ساحة واسعة تتوسطها بحرة ماء
ونافورة, وتكتنفها مسطبتان خشبيّتان مرتفعتان ومفروشتان بالبسط وبجانبها
خزن لوضع الثياب النظيفة فيها والمناشف التي توزّع على المستحمين,
و(الوسطاني) هو عبارة عن قاعة كبيرة جدًا توجد فيها مراحيض وعدّة أجران
كبيرة مزوّدة بالماء الساخن والماء البارد, يساعد فيها المستحمين مستخدمون
يقومون بتدليك وتفريك أجسامهم, أما الجزء الداخلي: (الجواني) فتعلوه قبة
ينفذ النور الخارجي منها بطاقات زجاجية مدوّرة وتنتهي فيه مراحل الاستحمام
بصبّ المياه المذابة فيها أقراص (الترابة الحلبية) المعطرة على الرأس
والجسم. إن للأديبة الشامية السيدة ألفة عمر باشا الإدلبي مقالة وصفت فيها
حمام (العفيف) بالصالحية يوم صحبتها جدتها للاستحمام فيه, فقرأت على بابه
الخارجي
لوحة مكتوب عليها:
(كل من طلب
العافية من ربٍّ لطيف فليقصد الله ثم حمام (العفيف)). ولقد برعت بوصف حفلة
شاهدتها يومذاك لعروسٍ يوم زفافها كيف جرى الاحتفال بوضع الحنّة على يديها
ثم دهن جسمها بالزنجبيل قبل الاستحمام الذي تلته دعوة أهلها للموجودات في
ذلك الحمام لتناول أقراص اللحم بالعجين والفواكه والحلوى والمرطبات. لقد
كانت تلك الحمامات مزودة بمياه نهر بردى قبل وصول مياه نبع عين الفيجة إلى
دور دمشق ومرافقها العامة في عام 1932 الذي نفذته بلدية دمشق وغرفة التجارة
فيها, وجعلته مشروعًا وطنيًا ملكًا لأهالي دمشق يصل إلى دورهم من الخزانات
بأنابيب مرفقة بعدّادات ليدفع كل مشترك ثمن المياه التي يستهلكها زيادة عن
الكمية التي اشتراها سواء كانت ربع متر أو أكثر.
البيمارستانات الثلاثة
إن
مما يعطى لمدينة دمشق صفة مدينة الخير الخدمات الصحية والاجتماعية الخيرية
التي تحققت فيها في العصور القديمة المعروفة باسم (البيمارستانات),
فالبيمارستان كلمة فارسية مركبة من كلمتين هما (بيمار) أي المريض, و(ستان)
ومعناها: (المكان), فقد بنى أولها الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك في
القرن الأول الهجري, بالقرب من باب دمشق الشرقي لعزل المجزمين فيها تفاديًا
لانتشار العدوى إلى الأصحاء, وأسّس الثاني منها (نور الدين بن محمود
الزنكي) عام 595هـ. فكان يتألف من أربعة أقسام خصّص كل واحد منها لعلاج نوع
من الأمراض, وكان الثالث معروفًا باسم (القيمري), وقريبا من جامع الشيخ
محيي الدين بن عربي, ومتميّزًا بإطلالة نوافده على شجر النارنج المحيطة به
الذي تفوح من أزهارها رائحة زكية منعشة للنفوس. كانت لتلك البيمارستانات
أوقاف كثيرة تدرّ عليها الأموال الضرورية لإطعام المرضى ومعالجتهم ودفع
أجور الأطباء والممرضين, وقد ظلّ البيمارستان الثالث مفتوحًا حتى أوائل
القرن الرابع عشر الهجري, حيث قامت بلدية دمشق بإنشاء مستشفى الغرباء
بالقرب من تكية السلطان سليم. لقد تحدث عن هذا البيمارستان المؤرخ العالم
محمد كرد علي في الجزء السادس من كتابه (خطط الشام), وقال إن منشئه كان أبا
الحسن بن أبي الفوارس في القرن السابع الهجري, واستنادًا إلى الجزء الأول
من كتاب وضعه الدكتور (يوسف جميل نعيمة), ونشرته (دار طلاس) بدمشق عام
1986م. بعنوان: (مجتمع مدينة دمشق 1772-1840م). تأكد لدى الباحثين خلوّ
دمشق من الخدمات الصحية العامة في العهد العثماني ما عدا المستشفى العسكري
الذي بناه إبراهيم باشا المصري في القرن التاسع عشر ميلادي بالقرب من مقبرة
(الصوفية) في غرب دمشق(1).
لقد كان الدمشقيون على اختلاف مذاهبهم
وطوائفهم في العصور الغابرة, ولايزالون يتصفون بالتراحم وحبّ الخير, وليست
التكايا القديمة والجمعيات الخيرية التي أسست لذلك الغرض في القرن العشرين
كالهلال الأحمر والمبرات المتعددة إلا لتقدم الخدمات الطبية والاجتماعية
لسكان دمشق الذين تضاعف عددهم أكثر من عشر مرّات في العصر الحديث. وختامًا
أودّ الإشارة إلى أن عشق أهل دمشق للأزهار في العصور القديمة جعلهم يسمّون
بعض حاراتها بأسماء الزهور كـ(حارة المسك) في شرقها و(حارة الورد) في وسطها
و(حارة البنفسج) في غربها.
(1) مجتمع مدينة دمشق 1772-1840م. للدكتور يوسف جميل نعيسه, الجزء الأول الصادر عن دار طلاس عام 1986 - صفحة 136.