هود عليه السلام
نبذة :
أرسل إلى قوم عاد الذين كانوا بالأحقاف،وكانوا أقوياء الجسم والبنيان وآتاهم الله الكثير
من رزقه ولكنهم لم يشكروا الله على ما آتاهم وعبدوا الأصنام فأرسل لهم الله هودا
نبيا مبشرا، كان حكيما ولكنهم كذبوه وآذوه فجاء عقاب الله وأهلكهم بريح صرصر
عاتية استمرت سبع ليال وثمانيةأيام.
سيرته:
عبادة الناس للأصنام:
بعد أن ابتلعت الأرض مياه الطوفان الذي أغرق من كفر بنوح عليه السلام، قام من آمن
معه ونجى بعمارة الأرض. فكان كل منعلى الأرض في ذلك الوقت من المؤمنين. لم يكن
بينهم كافر واحد. ومرت سنوات وسنوات.
مات الآباء والأبناء وجاء أبناء الأبناء. نسى الناس وصية نوح، وعادت
عبادة الأصنام. انحرف الناس
عن عبادة الله وحده، وتم الأمر بنفس الخدعة القديمة.
قال أحفاد قوم نوح: لا نريد أن ننسى آبائنا الذين نجاهم الله من الطوفان.
وصنعوا للناجين تماثيل
ليذكروهم بها، وتطور هذا التعظيم جيلا بعد جيل،
فإذا الأمر ينقلب إلى العبادة، وإذا بالتماثيل
تتحول بمكر من الشيطان إلى آلهة مع الله. وعادت الأرض تشكومن الظلام مرة ثانية.
وأرسل الله سيدنا هودا إلى قومه.
إرسال هود عليه السلام:
كان "هود" من قبيلة اسمها "عاد" وكانت هذه
القبيلة تسكن مكانا يسمى الأحقاف.. وهو صحراء تمتلئ بالرمال،
وتطل على البحر. أما مساكنهم
فكانت خياما كبيرة لها أعمدة
شديدة الضخامة والارتفاع،
وكان قوم عاد أعظم أهل زمانهم في قوة الأجسام،والطول والشدة.. كانوا
عمالقة وأقوياء، فكانوا يتفاخرون بقوتهم.
فلم يكن في زمانهم أحد في قوتهم. ورغم ضخامة
أجسامهم، كانت لهم عقول مظلمة. كانوا يعبدون الأصنام،ويدافعون عنها، ويحاربون من أجلها، ويتهمون نبيهم
ويسخرون منه. وكان المفروض،
داموا قد اعترفوا أنهم أشد الناس قوة، أن يروا أن
الله الذي خلقهم هو أشد منهمقوة.
قال لهم هود نفس الكلمة التي يقولها كل رسول.
لا تتغير ولا تنقص ولاتتردد ولا تخاف ولا
تتراجع. كلمة واحدة هي الشجاعة كلها، وهي الحق وحده
(يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا
لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَتَتَّقُونَ).
وسأله قومه: هل تريد أن تكون سيدا علينا بدعوتك؟ وأي أجرتريده؟إن هذه الظنون السئية تتكرر على ألسنة الكافرين عندما يدعوهم نبيهم للإيمان بالله وحده.
فعقولهم الصغيرة لا تتجاوز الحياة الدنيوية.
ولا يفكروا إلابالمجد والسلطة والرياسة.
أفهمهم هود أن أجره على الله، إنه لا يريد منهم شيئا غير أن يغسلوا
عقولهم في نور الحقيقة. حدثهم عن نعمة الله عليهم، كيف جعلهم خلفاء لقوم نوح، كيف
أعطاهم بسطة في الجسم، وشدة في البأس،
كيف أسكنهم الأرض التي تمنح الخير والزرع. كيف
أرسل عليهم المطر الذي يحيى به الأرض. وتلفت قوم هود حولهم فوجدوا أنهم أقوى من على
الأرض، وأصابتهم الكبرياء وزادوا في العناد.
قالوا لهود: كيف
تتهم آلهتنا التي وجدنا آباءنا يعبدونها؟قال هود: كان آباؤكم مخطئين.
قال قوم هود:
هل تقول يا هود إننا بعد أن نموت ونصبح ترابا يتطاير في الهواء، سنعود إلى
الحياة؟قال هود: ستعودون يوم القيامة،
ويسأل الله كل واحدفيكم عما فعل.
انفجرت الضحكات بعد هذه الجملة الأخيرة.
ما أغرب ادعاء هود. هكذا تهامس الكافرون من
قومه. إن الإنسان يموت، فإذا مات تحلل جسده،
فإذا تحلل جسده تحول إلى تراب، ثم يهب
الهواء ويتطاير التراب. كيف يعود هذا كله إلى أصله؟!
ثم مامعنى وجود يوم للقيامة؟
لماذا يقوم الأموات من موتهم؟استقبل هود كل هذه الأسئلة بصبر كريم.. ثم بدأ يحدث قومه عن يوم
القيامة.. أفهمهم أن إيمان الناسب الآخرة ضرورة تتصل بعدل الله، مثلما هي ضرورة
تتصل بحياة الناس. قال لهم ما يقوله كل نبي عن يوم القيامة.
إن حكمة الخالق المدبر لا
تكتمل بمجرد بدء الخلق،
ثم انتهاءحياة المخلوقين في هذه الأرض. إن هذه الحياة
اختبار، يتم الحساب بعدها.
فليست تصرفات الناس في الدنيا واحدة، هناك من يظلم،
وهناك من يقتل، وهناك من يعتدي..
وكثيرا ما نرى
الظالمين يذهبون بغير عقاب، كثيرا ما نرى المعتدين يتمتعون في الحياةبالاحترام والسلطة. أين
تذهب شكاة المظلومين؟ وأين يذهب ألم المضطهدين؟
هل يدفن معهم في التراب بعد الموت؟إن العدالة تقتضي وجود يوم للقيامة. إن الخير لاينتصر دائما في الحياة.
أحيانا ينظم الشر جيوشه ويقتل حملة الخير.
هل تذهب هذه الجريمة بغير عقاب؟إن ظلما عظيما يتأكد لو افترضنا أن يوم القيامة لن يجئ. ولقد حرم الله تعالى
الظلم على نفسه وجعله محرما بين عباده. ومن تمام العدل وجوديوم للقيامة والحساب
والجزاء. ذلك أن يوم القيامة هو اليوم الذي تعاد فيه جميع القضايا مرة أخرى أمام
الخالق، ويعاد نظرها مرة أخرى. ويحكم فيها رب العالمين سبحانه.
هذه هي الضرورة الأولى ليوم القيامة، وهي
تتصل بعدالة الله ذاته.
وثمة ضرورة أخرى ليوم القيامة،
وهي تتصل بسلوك الإنسان نفسه. إن الاعتقاد بيوم الدين،
والإيمان ببعث الأجساد، والوقوف للحساب، ثم تلقي الثواب والعقاب،
ودخول الجنة أو النار، هذا شيء من شأنه
أن يعلق أنظار البشر وقلوبهم بعالم أخر بعد عالم الأرض،
فلا تستبد بهم ضرورات
الحياة، ولا يستعبدهم الطمع، ولا تتملكهم الأنانية،
ولا يقلقهم أنهم لم يحققوا جزاء سعيهم
في عمرهم القصير المحدود،
وبذلك يسمو الإنسان على الطين الذي خلق منه إلى الروح
الذي نفخه ربه فيه. ولعل مفترق الطريق بين الخضوع لتصورات الأرض وقيمها
وموازينها، والتعلق بقيم الله العليا،
والانطلاق اللائق بالإنسان، يكمن في الإيمان بيوم
القيامة.
حدثهم هود بهذاكله فاستمعوا إليه وكذبوه.
قالوا له هيهات هيهات.. واستغربوا أن يبعث
الله من في القبور،
استغربوا أن يعيد الله خلق الإنسان بعد تحوله إلى التراب،
رغم أنه خلقه من قبل من التراب. وطبقا
للمقاييس البشرية، كان ينبغي أن يحس المكذبون للبعث أن إعادةخلق الإنسان من التراب
والعظام أسهل من خلقه الأول.
لقد بدأ الله الخلق فأي إعادته؟! إن الصعوبة
-طبقا للمقياس البشري- تكمن في الخلق.
وليس المقياس البشريغير مقياسٍ بشري ينطبق
على الناس، أما الله، فليست هناك أمور صعبة أو سهلة بالنسبةإليه سبحانه، تجري الأمور
بالنسبة إليه سبحانه بمجرد الأمر.
موقف الملأ من دعوة هود:
يروي المولى عزل وجل موقف الملأ (وهم الرؤساء) من دعوة هود عليه السلام.
سنرى هؤلاء الملأ في كل قصص الأنبياء.
سنرى رؤساء القوموأغنيائهم ومترفيهم يقفون ضد الأنبياء. يصفهم
الله تعالى بقوله:
(وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)
من مواقع الثراء
والغنى والترف، يولد الحرص على استمرارالمصالح الخاصة. ومن مواقع الثراء والغنى والترف
والرياسة، يولد الكبرياء. ويلتفت الرؤساء في القوم إلى أنفسهم ويتساءلون: أليس هذا
النبي بشرا مثلنا، يأكل مما نأكل،ويشرب مما نشرب؟ بل لعله بفقره يأكل أقل مما
نأكل، ويشرب في أكواب صدئة، ونحن نشرب في أكواب الذهب والفضة.. كيف يدعي أنه على الحق
ونحن على الباطل؟ هذا بشر .. كيف نطيع بشرا مثلنا؟
ثم.. لماذا اختار الله بشرا من
بيننا ليوحى إليه؟قال رؤساء قوم
هود: أليس غريبا أن يختار الله من بيننا بشرا ويوحي إليه؟!
تسائل هو: ما هو الغريب
في ذلك؟ إن الله الرحيم بكم قد أرسلني إليكم لأحذركم.
سفينة نوح،وقصة نوح ليست ببعيدة
عنكم، لا تنسوا ما حدث، لقد هلك الذين كفروا بالله،
وسيهلك الذين يكفرون بالله
دائما، مهما يكونوا أقوياء.
قال رؤساء قوم هود: من الذي سيهلكنا يا هود؟قال هود: الله .
قال الكافرون من قوم هود: ستنجينا آلهتنا.
وأفهمهم هود أن هذه الآلهة التي يعبدونها لتقربهم من الله،
هي نفسهاالتي تبعدهم عن الله.
أفهمهم أن الله هو وحده الذي ينجي الناس،
وأن أي قوة أخرى في الأرض لا تستطيع أن تضر
أو تنفع.
واستمر الصراع بين هود وقومه. وكلما استمرالصراع ومرت الأيام،
زاد قوم هود استكبارا وعنادا
وطغيانا وتكذيبا لنبيهم.
وبدءوايتهمون "هودا" عليه السلام بأنه سفيه
مجنون.
قالوا له يوما: لقد فهمنا الآنسر جنونك.
إنك تسب آلهتنا وقد غضبت آلهتنا عليك،
وبسبب غضبها صرت مجنونا.
انظروا للسذاجة التي وصل إليها تفكيرهم.
إنهم يظنون أن هذه الحجارةلها قوى على من صنعها.
لها تأثير على الإنسان مع أنا لا تسمع ولا ترى ولا تنطق.
لميتوقف هود عند هذيانهم،
ولم يغضبه أن يظنوا به الجنون والهذيان، ولكنه توقف عندقولهم:
(وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن
قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَبِمُؤْمِنِينَ).
بعد هذا التحدي لم يبق لهود إلا التحدي.
لم يبق له إلاالتوجه إلى الله وحده. لم
يبق أمامه إلا إنذار أخير ينطوي على وعيد للمكذبينوتهديدا لهم..
وتحدث هود:
إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَابِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي
أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّاتُشْرِكُونَ (54) مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي
جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ (55)
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن
دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَآخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ فَإِن
تَوَلَّوْاْفَقَدْ
أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّيقَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ
تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍحَفِيظٌ (57) (هود)
إن الإنسان ليشعر بالدهشة لهذه الجرأة في الحق.
رجل واحديواجه قوما غلاظا شدادا
وحمقى. يتصورون أن أصنام الحجارة تستطيع الإيذاء.
إنسانبمفرده يقف ضد جبارين فيسفه عقيدتهم، ويتبرأ منهم
ومن آلهتهم، ويتحداهم أن يكيدواله بغير إبطاء أو إهمال،
فهو على استعداد لتلقي
كيدهم، وهو على استعداد لحربهم فقدتوكل على الله.
والله هو القوي بحق، وهو الآخذ
بناصية كل دابة في الأرض.
سواءالدواب من الناس أو دواب الوحوش أو الحيوان. لا
شيء يعجز الله.
بهذا الإيمان بالله، والثقة بوعده، والاطمئنان إلى نصره..
يخاطب هود الذين كفروا
من قومه. وهويفعل ذلك رغم
وحدته وضعفه، لأنه يقف مع الأمن الحقيقي ويبلغ عن الله.
وهو في حديثهيفهم قومه أنه أدى
الأمانة، وبلغ الرسالة.
فإن كفروا فسوف يستخلف الله قوما غيرهم،
سوف يستبدل بهم قوما
آخرين. وهذا معناه أن عليهم أن ينتظروا العذاب.
هلاك عاد:
وهكذا أعلن هود لهم براءته منهم ومن آلهتهم.
وتوكل على الله الذي
خلقه،وأدرك أن
العذاب واقع بمن كفر من قومه. هذا قانون من قوانين الحياة.
يعذب الله الذين كفروا، مهما كانوا أقوياء
أو أغنياء أو جبابرة أو عمالقة.
انتظر هودوانتظر قومه وعد الله. وبدأ الجفاف في الأرض. لم تعد السماء تمطر.
وهرع قوم هودإليه. ما هذا
الجفاف يا هود؟ قال هود: إن الله غاضب عليكم،
ولو آمنتم فسوف يرضىالله عنكم ويرسل المطر
فيزيدكم قوة إلى قوتكم.
وسخر قوم هود منه وزادوا في العنادوالسخرية والكفر. وزاد
الجفاف، واصفرت الأشجار الخضراء ومات الزرع.
وجاء يوم فإذاسحاب عظيم يملأ السماء.
وفرح قوم هود وخرجوا من بيوتهم يقولون:
(هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا).
تغير الجو فجأة.
من الجفاف الشديد والحر إلى البرد الشديدالقارس.
بدأت الرياح تهب.
ارتعش كل شيء، ارتعشت الأشجار والنباتات والرجال والنساءوالخيام.
واستمرت الريح. ليلة بعد ليلة، ويوما
بعد يوم. كل ساعة كانت برودتهاتزداد. وبدأ قوم هود يفرون،
أسرعوا إلى الخيام
واختبئوا داخلها، اشتد هبوب الرياحواقتلعت الخيام،
واختبئوا تحت الأغطية، فاشتد
هبوب الرياح وتطايرت الأغطية. كانتالرياح تمزق الملابس وتمزق الجلد وتنفذ من فتحات
الجسم وتدمره. لا تكاد الريح تمسشيئا إلا قتلته ودمرته، وجعلته كالرميم.
استمرت الرياح مسلطة عليهم سبع ليالوثمانية أيام لم تر الدنيا مثلها قط. ثم توقفت
الريح بإذن ربها.
لم يعد باقيا ممنكفر من قوم هود إلا ما يبقى من النخل الميت. مجرد
غلاف خارجي لا تكاد تضع يدك عليهحتى يتطاير ذرات في الهواء.
نجا هود ومن آمن معه.. وهلك الجبابرة..
وهذهنهاية عادلة لمن يتحدى
الله ويستكبر عن عبادته